Friday, 30 September 2011

الاستعمار الجديد الزراعي والامن الغذائي-6

يتسلم النهران العظيمان الأزليان بالعراق حوالي 14 (أربعة عشر) مليار متر مكعب من الماء سنويا،ً والعهدة في هذا الرقم على الحكومة التركية. لقد زار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بغداد مؤخراً، ووقع 48 معاهدة مع حكومة بغداد، استقبل وودع بكل حفاوة..ولكني لا أعتقد أن مشكلة المياه كانت من أولويات هذه الاجتماعات وحفلات التوقيع تلك. وقد تابعت الموضوع قبل وأثناء وبعد الزيارة فلم أسمع أحداً يتكلم عن مياه العراق اللهم إلا النائب كريم اليعقوبي عضو لجنة المياه في البرلمان، وأنا أحييه على موقفه الواضح من الموضوع وتحذيره من "كارثة مائية " سيشهدها العراق طالما بقت مسألة حصته المائية أمرا لا يثير نخوة رجال السياسة عندنا للتطرق له .

فلو قارنّا ما تقوم به الحكومة المصرية مثلا لحفظ حقها في مياه النيل، وما تقوم به الحكومة العراقية بخصوص مياه دجله والفرات. لوجدنا أن نهر النيل يمر بتسع دول قبل الوصول إلى مصر،التي يصب فيها 55 مليار متر مكعب سنويا. ومع هذا تبقى مصر هي صاحبة حصة الأسد في مياه النيل رغم كونها دولة المصب. أما مياه دجلة والفرات معاً فهي أقل من ربع ما يجري في نهر النيل. وتعد مياه النيل من "الخطوط الحمراء" بالنسبة لجيش وحكومة مصر. وفي الآونة الأخيرة عرضت الحكومة الإثيوبية أربعة ملايين ايكر من الأراضي الزراعية للبيع أو الإيجار طويل الأمد، وذلك حسب جريدة WASHINGTON POST يوم 22/10/2009. وهذه ليست المرة الأولى التي تعرض فيها أثيوبيا أراضٍ زراعية لمن يدفع أكثر. وكجارتها السودان أصبحت أراضيها مشاعة لمن يدفع أكثر وهما الدولتان الرئيسيتان اللتان تستلمان المساعدات الغذائية من الدول المانحة والأمم المتحدة مباشرة. وينبع ويمر نهر النيل فيهما.

وبعد إعلان نية إثيوبيا بيع أراضيها بدأت حملة مكوكية لوزراء مصر من القاهرة إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا؛ فخلال الأسبوع الماضي ذهبت إلى هناك وزيرة التعاون الدولي ثم تبعها وزير الزراعة وسيتبعهم رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف خلال الأيام القادمة. إن السبب الرئيسي لهذه الزيارات هو خطة إثيوبيا لبناء عدد من السدود على أراضيها، كذا بيعها لملايين الايكرات من الأراضي الأثيوبية لدول وشركات عالمية.وبالطبع ستغير هذه الحيازات أو الملكيات الجديدة من الطرق الزراعية التقليدية إلى زراعة مكثفة، والتي تحتاج إلى مياه كثيرة من نهر النيل بالأساس، وربما من نهري جوبا وشبيلي اللذين يسقيان الصومال. ومن هنا نفهم لماذا يقلق هذا الموضوع المصريين كثيرا، فرغم أن معاهدة 1929 لحوض نهر النيل تعطي حصة الأسد من مياه النهر لمصر رغم الحقيقة الماثلة بأن 85% من مياه النهر نفسه تنبع من المرتفعات الإثيوبية. فلنقارن بين هذه الهمة المصرية وبين موقف حكومتنا العراقية التي لا تتطرق للأمر حتى لو جاءها مسئولو دول الجوار في زيارة ما. ربما يخجلون!

وهناك معادلة بسيطة هو أن كل مليون شخص يحتاج إلى مليار متر مكعب من المياه سنويا. وحيث أن مصر تعتبر نفسها من الدول الفقيرة مائياً لأن نفوسها الآن 70 مليون نسمة. فهذا ما يجعلنا نفكر بالثلاثين مليون عراقي، والذين لا يصلهم إلا حوالي 14 مليار متر مكعب سنويا. وبهذا يمكن تصنيفهم في خانة "الأشد فقراً للمياه"

هذا و قد استفحل موضوع الاستعمار الجديد الزراعي الى درجه وحسب IPS يوم 23.10.2009 بان هناك37-49 مليون ايكر(الايكر 4040 مم) من الاراضي الزراعيه قد بيعت منذ العام 2006 ولغاية 2009. اي في ثلاث سنوات فقط, وهذا بدوره سيوثر تاثيرا سلبيا على حياة 1.5 مليار مزارع بسيط في الدول الفقيره.

وبالاضافه لما تقوم به الحكومات الاغنى للحصول على اراضي زراعيه , فان الموسسات الماليه العالميه قد دخلت على الخط, وها هي قد بدات ايضا تستحوذ على اراضي وشركات زراعيه. فحسب موقعGRAIN الامريكي و بتاريخ 20.10.2009 فان هناك حتى الان 120 موسسه ماليه عالميه منهمكه في انهاء صفقات شراء اراضي زراعيه. وقد قامت GRAIN بوضع جدول مفصل حول هذا الموضوع. والرابط لهذا الجدول:www.grain.org/m/?id266

وكلي أمل بأن العراق لن يدخل ضمن هذه القائمة المشبوهة، ولكن حسب موقع جريدة ARAB NEWS /27.10.2009 فإن وزير الزراعة التركي "مهدي ايكر" زار في ذلك اليوم وزير الزراعة السعودي "فهد الغنيم" و عرض عليه مزيدا من الأراضي و المياه التركية، و هذا بطبيعة الحال سيؤثر سلبا على وضع المياه المنصرفة إلى العراق.

وقد نقلت شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) عن مسؤولة عراقية أن عدد العراقيين الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي يشهد تزايدا مستمرا. إذ تسبب تقلص الإنتاج الزراعي القومي وارتفاع نسبة التضخم والبطالة وتدهور نظام الدعم الغذائي في إلحاق أضرار بالغة بالفقراء. فكيف سيكون حال هؤلاء مع مزيد من شحة المياه وبالتبعية انعدام الزراعة؟

إن أي ضمان لحقوق العراق المائية لن يكون بتصريحات تتناقلها وسائل الإعلام، ولا بتطمينات تلي لقاءات المسئولين؛ فالعبرة في هذا المجال هو وجود اتفاقات واضحة وموثقة ومجازة من الجهات المسئولة في العراق والبلدان التي تنبع وتجري فيها الأنهار التي تصله مياهها. الاتفاقات الثنائية والدولية وحدها هي بداية الأمن المائي،وتحدد فيها سبل حل المشاكل المتوقعة، ويمنع الالتفاف على بنودها ويحظر التصرف في المياه لخارج دول أحواض هذه الأنهار طالما سيتضرر إحدى دوله جراء ذلك، وينظم أي توسع زراعي في دولة لصالح مستثمر أجنبي طالما أن من شأنه تقليل المياه التي تذهب لدولة جارة في نفس الحوض،وهذا الدور يخاطب به الجميع وأولهم القانونيون ورجال الحكم والمعنيين بالزراعة في العراق،وعلى الإعلام تنبيه المواطنين لهذه القضية لأن تركها بلا حل يعني ببساطة القضاء على ما كان يعرف بأرض السواد والخير، وحرمان أبنائنا مما ورثناه عن آبائنا، وهنا للإعلام دور يجب أن يضطلع به، بدلا من تسليط الضوء على الخلافات المفتعلة والمشاحنات المستهلكة.

إن توثيق حقوق العراق المائية هو خطوة أساسية لحماية العراق من خطر الموت عطشاً، وتحمي أراضيه من الجفاف والتصحر.
  أ.د. طالب مراد
مستشار إقليمي (متقاعد) بمنظمة الأغذية و الزراعة (الفاو) لشمال أفريقيا والشرق الأوسط.

رئيس سابق لرابطة موظفي الأمم المتحدة ،مصر
http://www.alitthad.com/paper.php?name=News&file=article&sid=65298.
نشر في 10.11.2009

No comments: