قبل ربع قرن تركت ليبيا بعد أن قضيت فيها حوالي عشرة سنوات حيث كنت أعمل في ذلك البلد كأستاذ بجامعة طرابلس آنذاك مؤسسا لكلية الطب البيطري فيها. وقد عشت هناك في أوج الثورة الخضراء ومقولات القائد والكتاب الأخضر وزيارات فصائل المعارضة العراقية للحصول على المساعدات المالية. كنت هناك عندما كانت مقولات القائد ومحتويات الكتاب الأخضر هي كل ما يمكننا أن نسمع أو نشاهد أو نقرأ. وإحدى المقولات التي كانت تكرر يوميا في نشرات الأخبار هو أنه "لا حرية لشعب يأكل من وراء البحار". كنت ساعتها استخف بهذه المقولة؛ لأني كنت مقتنعا بأن الاكتفاء الذاتي هو إحدى طروحات المعسكر الاشتراكي آنذاك، وان الغذاء يُصدر ويُستورد، تماما مثل أي سلعة أخرى.ولكن بعد مرور سنوات طويلة وعملي في الدول الأشد فقرا وفي دول شرق أوسطية وأفريقية أيقنت بأن الغذاء هو أهم بكثير من أن يكون سلعة تُصدر وتُستورد. وأن الشعوب وحتى الغنية منها والتي تعتمد على الخارج أو ما وراء البحار في غذائها هي شعوب مغلوبة على أمرها، ولا تملك كامل حريتها.
على هامش مصطلح الأمن الغذائي:
صنف الدول التي تعاني من مشكلة الأمن الغذائي إلى 3 مجاميع. أولها دول فقيرة، تعتمد كليا في أو في الجزء الأكبر في غذائها على المساعدات المقدمة لها من الخارج، ثم دول فقيرة أخرى تعتمد على المساعدات الغذائية من الخارج، وفي نفس الوقت تعرض أراضيها الزراعية لمن يدفع أكثر. ثم هناك دول غنية استفحل فيها مشكلة الأمن الغذائي نتيجة للكثرة السكانية أو غلاء أسعار المواد الغذائية. وهذه الفئة من الدول هي التي تتطلع لما وراء الحدود للحصول على أراضي زراعية: إما لزراعتها لتغذية شعوبها أو للتجارة بإنتاجها الزراعي. وفي كلا الحالتين لا تستفيد الشعوب صاحبة الأراضي المستغلة من الأمر كثيراً. وكانت هذه العملية ولغاية سنوات قليلة تُسمى بالاستثمار، أما الآن فتوصف بأنها "الاستعمار الزراعي الجديد". وهذا المصطلح أخذ أبعادا جديدة: فخلال العامين الماضيين أخذت عدة شعوب فقيرة تقاوم هذا الاستغلال. ودول منظومة الاستعمار الجديد غالبها إما شرق أوسطية أو آسيوية، ومنها دول صغيرة ومنها دول كبيرة جدا. منها لا يتعدى عدد نفوسها بضعة مئات من الألوف ومنها من يزيد عن المليار كالصين مثلاً، وهي كلها دول غنية. ويجب أن ندرك أن الدول التي تعاني من مشكلة الأمن الغذائي يزداد عددها باطراد، وستكون في فترة زمنية قليلة مشكلة الجميع بلا استثناء. وحسب تقرير صدر أخيرا من منظمة التنمية الزراعية العربية التابع للجامعة العربية فإن الدول العربية تستورد معظم حاجاتها من الغذاء، وزادت كلفة الاستيراد من 15 مليار دولار في عام 2006 إلى 20 مليار في 2007.
ونتيجة لظروف الدول العربية والمشاكل التي تواجهها مثل شحة المياه والتصحر وبعثرة المراعي الطبيعية والنمو السكاني الرهيب والجفاف والقحط الذي يبدو أنه سمة ملازمة لهذه المنطقة من دون دول العالم، فإن الإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية قليلة جدا في هذه المنطقة. ونظرا للنقص الشديد في أعداد الرؤوس الحيوانية وذلك للأسباب السابقة، فإن التجارة الشرعية واللا شرعية بالحيوانات الحية ومنتجاتها قد انتشرت هنا بين دول المنطقة وخارجها؛ مما أدى لزيادة الأمراض الحيوانية العبارة للحدود والتي بدورها تؤثر على صحة الإنسان مثلما يؤثر سلبا على الأمن الغذائي.
وخلال نصف قرن فقط ازداد نفوس الشعب العراقي ثلاثة أضعاف فيما تراجع عدد الحيوانات المرتبطة بالزراعة لثلث ما كان عليه، أما قطاع الدواجن الذي كان ينمو باطراد ويقدم أكثر البروتين الحيواني فقد كان يعتمد على العلف والمستلزمات المستوردة. وبعبارة أخرى فإن الثروة الحيوانية وبالأخص قطاع الدواجن تعتمد بدورها على ما وراء الحدود في احتياجاتها الغذائية.
وفي مقارنة بسيطة مع دول أشد فقرا خارج منطقتنا مثل أفغانستان -التي نستخف بها - نرى أن هذه الدولة وبظروفها السيئة التي مرت بها في العقود الأخيرة إلا أنها استطاعت عام 2007 إنتاج 90% من احتياجاتها من القمح. وحتى الذين يتسلمون المساعدات الغذائية هناك هم نصف ما هم عليه في العراق. علما أن نفوس البلدين متقارب جدا، كما أنه لا يوجد نهران دائمان في أفغانستان مثلما الحال في العراق. وقد قمت بعدة زيارات لأفغانستان كمراقب أممي للأمن الغذائي، حيث زرتها أثناء حكم حركة طالبان وبعد زوال حكمها. وأثناء حكم طالبان لم يكن الوضع الغذائي أسوأ من دول يعرض حكامها أراضيها الآن لمن يدفع أكثر.
كما لاحظت شخصيا في العراق أن علب وعبوات الطعام والحليب بأرفف المحلات أصبحت تاريخ صلاحيتها ومصادرها أمرا غير مهم لا للمشتري ولا للبائع ولا للمراقب.وأصبحت هذه الحالة تذكرني بما كنت أراه في ارفف دكاكين الصومال من برما شمالا وحتى قسمايو جنوباً، كما لاحظت الشيء ذاته في دكاكين أفغانستان.
الحالة العراقية
وعلى ما يبدو أن الفضائح الأخيرة التي طالت وزارة التجارة ببغداد لها صلة بهذه الأرقام، وذكر التقرير بأن الأمم المتحدة تقدم معونات غذائية عبر المفوضية العليا لشئون اللاجئين لنحو 360 ألف عراقي مهاجر في سوريا. أما البطاقة التموينية فكلنا نعلم أن هناك العديد من الأسر العراقية التي لا زالت تعتمد عليها، وعندما أردت مؤخراً الحصول على جواز سفر عراقي جديد فقد طلب مني هذه البطاقة باعتبارها أحد الأوراق الرسمية، ولأني غادرت العراق منذ 4 عقود فأنا الآن بدون بطاقة وبدون جواز سفر عراقي، وبموجب هذه البطاقة والتي عادة ما تترك لدى متعهد التموين، والذي عادة ملا يكونوا أقرباء أشخاص نافذين في الحكومة أو الأحزاب السياسية. فإن كل فرد عراقي وحسب ما جاء في 19 مايو 2009 في تقرير شبكة المعلومات الإنسانية- ايرين نيوز- التابعة للأمم المتحدة فان كل مواطن يستلم شهريا سلة من السلع التموينية مكونة من:
فالحصة التموينية ارتبطت بمشروع النفط مقابل الغذاء، سيء الصيت، والذي بدأ في منتصف التسعينات عندما تسلمت بعض المنظمات المتخصصة بالأمم المتحدة ميزانيات خيالية من برنامج النفط مقابل الغذاء في ذلك الوقت. وكان رؤساء كافة المنظمات الثمانية المتخصصة المتواجدة هناك آنذاك من بلد واحد هو السودان، ومن شماله تحديدا..فيا للصدف.
وقد كنت أظن أن النظام الجديد سيفتح تحقيقات في هذا الفساد، ويحرك دعاوى بخصوص ما حصل. ولكن لم يحدث أي شيء(نفس الطاس ونفس الحمام). يجب أن ندرك أن إيجاد البديل للسلع التموينية هي ضرورة وطنية وملحة ، وعلى برلمانيّ بغداد وأربيل النظر في هذا الأمر إذا كانا جادين في حل مشكلة الأمن الغذائي بالبلاد. ولو وضع جدول زمني لحله بدلا من هذا الصمت والتجاهل كأن المشكلة غير موجودة. ويبدو أن السلطات المعنية تخشى اتخاذ قرار كهذا خوفا من تبعاته أو عدم قدرتها على إيجاد بديل يفي بالغرض. وقد أخذت الحكومة العراقية في حل مشكلة الأمن الغذائي على طريقتها؛ حيث يزداد الاستيراد يوما بعد آخر، من المنافذ الحدودية ال24 ومن الموانيء والمطارات، وهي تحاول تحسين الحصص التموينية ربما لأغراض دعائية.
وقد خطت خطوة أخرى ابعد من هذا: حيث أرسلت رئيس هيئة الاستثمار بها إلى بعض الدول الخليجية ليعرض عليها الحصول على أراض زراعية بالعراق.. وقد أقدمت الحكومة العراقية على هذه الفعلة ربما متصورة أنها بذلك ستضع المزيد من الأموال في خزينة الدولة دون أن تدرك فداحة ما اقترفت. وقد أشرت من قبل في الجزأين الأول والثاني- موجود الرابط بنهاية الحلقة- من هذه السلسة لخطورة هذه التدابير كونها لا تحل مشكلة بقدر ما تفاقمها أو ترحلها للمستقبل حيث يدفع الجيل الشاب الثمن.
صنف الدول التي تعاني من مشكلة الأمن الغذائي إلى 3 مجاميع. أولها دول فقيرة، تعتمد كليا في أو في الجزء الأكبر في غذائها على المساعدات المقدمة لها من الخارج، ثم دول فقيرة أخرى تعتمد على المساعدات الغذائية من الخارج، وفي نفس الوقت تعرض أراضيها الزراعية لمن يدفع أكثر. ثم هناك دول غنية استفحل فيها مشكلة الأمن الغذائي نتيجة للكثرة السكانية أو غلاء أسعار المواد الغذائية. وهذه الفئة من الدول هي التي تتطلع لما وراء الحدود للحصول على أراضي زراعية: إما لزراعتها لتغذية شعوبها أو للتجارة بإنتاجها الزراعي. وفي كلا الحالتين لا تستفيد الشعوب صاحبة الأراضي المستغلة من الأمر كثيراً. وكانت هذه العملية ولغاية سنوات قليلة تُسمى بالاستثمار، أما الآن فتوصف بأنها "الاستعمار الزراعي الجديد". وهذا المصطلح أخذ أبعادا جديدة: فخلال العامين الماضيين أخذت عدة شعوب فقيرة تقاوم هذا الاستغلال. ودول منظومة الاستعمار الجديد غالبها إما شرق أوسطية أو آسيوية، ومنها دول صغيرة ومنها دول كبيرة جدا. منها لا يتعدى عدد نفوسها بضعة مئات من الألوف ومنها من يزيد عن المليار كالصين مثلاً، وهي كلها دول غنية. ويجب أن ندرك أن الدول التي تعاني من مشكلة الأمن الغذائي يزداد عددها باطراد، وستكون في فترة زمنية قليلة مشكلة الجميع بلا استثناء. وحسب تقرير صدر أخيرا من منظمة التنمية الزراعية العربية التابع للجامعة العربية فإن الدول العربية تستورد معظم حاجاتها من الغذاء، وزادت كلفة الاستيراد من 15 مليار دولار في عام 2006 إلى 20 مليار في 2007.
ونتيجة لظروف الدول العربية والمشاكل التي تواجهها مثل شحة المياه والتصحر وبعثرة المراعي الطبيعية والنمو السكاني الرهيب والجفاف والقحط الذي يبدو أنه سمة ملازمة لهذه المنطقة من دون دول العالم، فإن الإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية قليلة جدا في هذه المنطقة. ونظرا للنقص الشديد في أعداد الرؤوس الحيوانية وذلك للأسباب السابقة، فإن التجارة الشرعية واللا شرعية بالحيوانات الحية ومنتجاتها قد انتشرت هنا بين دول المنطقة وخارجها؛ مما أدى لزيادة الأمراض الحيوانية العبارة للحدود والتي بدورها تؤثر على صحة الإنسان مثلما يؤثر سلبا على الأمن الغذائي.
وخلال نصف قرن فقط ازداد نفوس الشعب العراقي ثلاثة أضعاف فيما تراجع عدد الحيوانات المرتبطة بالزراعة لثلث ما كان عليه، أما قطاع الدواجن الذي كان ينمو باطراد ويقدم أكثر البروتين الحيواني فقد كان يعتمد على العلف والمستلزمات المستوردة. وبعبارة أخرى فإن الثروة الحيوانية وبالأخص قطاع الدواجن تعتمد بدورها على ما وراء الحدود في احتياجاتها الغذائية.
وفي مقارنة بسيطة مع دول أشد فقرا خارج منطقتنا مثل أفغانستان -التي نستخف بها - نرى أن هذه الدولة وبظروفها السيئة التي مرت بها في العقود الأخيرة إلا أنها استطاعت عام 2007 إنتاج 90% من احتياجاتها من القمح. وحتى الذين يتسلمون المساعدات الغذائية هناك هم نصف ما هم عليه في العراق. علما أن نفوس البلدين متقارب جدا، كما أنه لا يوجد نهران دائمان في أفغانستان مثلما الحال في العراق. وقد قمت بعدة زيارات لأفغانستان كمراقب أممي للأمن الغذائي، حيث زرتها أثناء حكم حركة طالبان وبعد زوال حكمها. وأثناء حكم طالبان لم يكن الوضع الغذائي أسوأ من دول يعرض حكامها أراضيها الآن لمن يدفع أكثر.
كما لاحظت شخصيا في العراق أن علب وعبوات الطعام والحليب بأرفف المحلات أصبحت تاريخ صلاحيتها ومصادرها أمرا غير مهم لا للمشتري ولا للبائع ولا للمراقب.وأصبحت هذه الحالة تذكرني بما كنت أراه في ارفف دكاكين الصومال من برما شمالا وحتى قسمايو جنوباً، كما لاحظت الشيء ذاته في دكاكين أفغانستان.
الحالة العراقية
أما العراق والذي على أرضه بدأت الزراعة منذ 7 آلاف سنة، وبه نهران دائما الجريان، وكانت يوماً مسطحات المياه العذبة به تعادل ما يوجد في كل الدول العربية مجتمعة، علاوة على حوالي 220 ملم من الأمطار التي تهطل سنويا على البلاد. وتشكل الأرض الخصبة الزراعية نحو خمس مساحة العراق بينما هذه النسبة في دولة زراعية مثل جمهورية مصر لا تتعدى 5% من مساحتها. وتقدر الأراضي الزراعية العراقية بتسعة مليون ونصف المليون هكتار ( 95مليون دونم). ومع كل هذا فقد ذكرت صحيفة الجارديان البريطانية عن منظمة الغذاء العالمية (W F P ) في 26 مايو 2009 أن هناك بالعراق الآن 930 ألف شخص يعيشون تحت خط الفقر. ولا يوجد لديهم أمن غذائي. وسينضم لهذا العدد 6.4 مليون شخص في حالة فشل مؤسسة السلع التموينية في أداء واجبها.
وعلى ما يبدو أن الفضائح الأخيرة التي طالت وزارة التجارة ببغداد لها صلة بهذه الأرقام، وذكر التقرير بأن الأمم المتحدة تقدم معونات غذائية عبر المفوضية العليا لشئون اللاجئين لنحو 360 ألف عراقي مهاجر في سوريا. أما البطاقة التموينية فكلنا نعلم أن هناك العديد من الأسر العراقية التي لا زالت تعتمد عليها، وعندما أردت مؤخراً الحصول على جواز سفر عراقي جديد فقد طلب مني هذه البطاقة باعتبارها أحد الأوراق الرسمية، ولأني غادرت العراق منذ 4 عقود فأنا الآن بدون بطاقة وبدون جواز سفر عراقي، وبموجب هذه البطاقة والتي عادة ما تترك لدى متعهد التموين، والذي عادة ملا يكونوا أقرباء أشخاص نافذين في الحكومة أو الأحزاب السياسية. فإن كل فرد عراقي وحسب ما جاء في 19 مايو 2009 في تقرير شبكة المعلومات الإنسانية- ايرين نيوز- التابعة للأمم المتحدة فان كل مواطن يستلم شهريا سلة من السلع التموينية مكونة من:
3 كجم أرز -2 كجم سكر- 1 وربع كجم زيت. 9 كجم طحين- ربع كجم حليب باودر- 200 جرام شاي- 250 جم بقول- 1.8 كجم حليب أطفال- 250 جرام صابون- 500 جرام مسحوق غسيل- 500 معجون طماطم. وبالطبع هناك فرق شاسع بين المذكور في مفردات هذه السلة وما يتسلمه بالفعل المواطن العراقي. بل إن بعض ما يحصل عليه المواطن من مواد غذائية يكون من البضاعة الرديئة، وقد رأيت بعيني سيارات وعربات تجوب شوارع عراقية تشتري مواد الحصص التموينية من المواطنين (وبسعر التراب كما يقول المصريون) فأين تذهب هذه المواد؟ والى أين تُصدر؟ ومن ينظم كل عمليات البيع والشراء تلك؟ وما موقف الحكومة منها؟ وما أستطيع استنتاجه من هذا أن الحصص التموينية لا تساهم كثيرا في حل مشكلة الأمن الغذائي، بل أن ضررها ربما يكون أكثر من نفعها، وهي تعتبر إحدى العثرات الموجودة أمام النمو الزراعي.
وهذا الموضوع أصبح واضحا للجميع. ولكن أحدا لا يضع له حلولا مناسبة أو يقترح آلية أخرى لمساعدة العوائل الفقيرة بالعراق وما أكثرها. والسبب ببساطة هو أن هناك الكثير من المستفيدين من استمرار هذه العملية.
فالحصة التموينية ارتبطت بمشروع النفط مقابل الغذاء، سيء الصيت، والذي بدأ في منتصف التسعينات عندما تسلمت بعض المنظمات المتخصصة بالأمم المتحدة ميزانيات خيالية من برنامج النفط مقابل الغذاء في ذلك الوقت. وكان رؤساء كافة المنظمات الثمانية المتخصصة المتواجدة هناك آنذاك من بلد واحد هو السودان، ومن شماله تحديدا..فيا للصدف.
وقد كنت أظن أن النظام الجديد سيفتح تحقيقات في هذا الفساد، ويحرك دعاوى بخصوص ما حصل. ولكن لم يحدث أي شيء(نفس الطاس ونفس الحمام). يجب أن ندرك أن إيجاد البديل للسلع التموينية هي ضرورة وطنية وملحة ، وعلى برلمانيّ بغداد وأربيل النظر في هذا الأمر إذا كانا جادين في حل مشكلة الأمن الغذائي بالبلاد. ولو وضع جدول زمني لحله بدلا من هذا الصمت والتجاهل كأن المشكلة غير موجودة. ويبدو أن السلطات المعنية تخشى اتخاذ قرار كهذا خوفا من تبعاته أو عدم قدرتها على إيجاد بديل يفي بالغرض. وقد أخذت الحكومة العراقية في حل مشكلة الأمن الغذائي على طريقتها؛ حيث يزداد الاستيراد يوما بعد آخر، من المنافذ الحدودية ال24 ومن الموانيء والمطارات، وهي تحاول تحسين الحصص التموينية ربما لأغراض دعائية.
وقد خطت خطوة أخرى ابعد من هذا: حيث أرسلت رئيس هيئة الاستثمار بها إلى بعض الدول الخليجية ليعرض عليها الحصول على أراض زراعية بالعراق.. وقد أقدمت الحكومة العراقية على هذه الفعلة ربما متصورة أنها بذلك ستضع المزيد من الأموال في خزينة الدولة دون أن تدرك فداحة ما اقترفت. وقد أشرت من قبل في الجزأين الأول والثاني- موجود الرابط بنهاية الحلقة- من هذه السلسة لخطورة هذه التدابير كونها لا تحل مشكلة بقدر ما تفاقمها أو ترحلها للمستقبل حيث يدفع الجيل الشاب الثمن.
تجارب وخبرات الآخرين:
ولننظر ماذا فعلت الدول الشرق الأوسطية والآسيوية لتوفير الأمن الغذائي لشعوبها : فهؤلاء بعكس العراق الذي لديه كل عوامل قيام تنمية زراعية، فإنه لا يعمل شيئا جادا وواضحا لإصلاح الأوضاع، وكذلك لا نرى من جانب الحكومة محاولات جدية للاستفادة بمياه الأنهار والتي تقل باستمرار.، بينما خرجت هذه الدول من حدودها وحصلوا بطرق عدة (أكثرها غير شرعية) على أراض زراعية من دول فقيرة تشكو من مشكلة الأمن الغذائي.
ولنأخذ مملكة البحرين مثلا التي لا يزيد سكانها عن قضاء عراقي، وأكثرهم أجانب، ولا تزيد مساحتها عن ناحية عراقية، هذه المملكة الصغيرة تعرف عين الجد أهمية الأمن الغذائي فقد توجهت إلى الفلبين وهي دولة يبلغ عدد سكانها نحو 90 مليون نسمة، ولا يملك 70% من مزارعيها وفلاحيها أراض زراعية، ومع ذلك حصلت البحرين على أراض زراعية بالفلبين لإنتاج الأرز ليتم استهلاكه بالبحرين، وذلك حسب نشرة جوينت بريس 24 يونيو حزيران 2009..
ويبدو أن هناك معارضة داخلية بالفلبين لهذا الاتفاق مع البحرين، وسرعان ما توجه السيد الحواج عضو غرفة تجارة البحرين إلى تايلاند وذلك حسب جريدة الخليج اليومية 25 يونيو2009 ربما لتأمين صفقة مماثلة أو مكملة للاتفاق مع الفلبين إذا ما واجهه عائق، وعلى نفس الوتيرة وفي تقرير حديث نشر في مجلة ديلي نيوز الباكستانية يوم 14 مايو 2009 قالت الصحيفة أن الإمارات العربية ستحصل على مساحة مليون هيكتار من باكستان. وقد شبه احد كتاب الجريدة المعاهدة بمعاهدة شركة الهند الشرقية التي عن طريقها استعمرت بريطانيا شبه القارة الهندية لأكثر من قرنين من الزمان.
تركيا والسد الجديد:
ولنترك قليلا الدول البعيدة عن حدود العراق ولنقترب ونرى ماذا حدث قريبا من حدودنا: فحسب وكالة رويترز في الأول من تموز 2009 أن المملكة العربية السعودية سوف "تستثمر" 3 مليار دولار في مشروع زراعي بتركيا في السنوات الخمسة القادمة لإنشاء 20 ألف وحدة زراعية حجم كل منها 10 آلاف متر مربع، وستغطي مساحة 200 كلم مربع وذلك لتصدير إنتاجها الزراعي والحيواني. وكأن حصولها على نصف مليون هكتار من الأراضي من تنزانيا لا تكفيها. ( ديلي ستار- دكا - 3 أغسطس آب 2009) وحسب ما نقلته وكالة رويترز للأنباء يوم 3 أغسطس آب 2009 فإن المملكة العربية السعودية ستستغني عن مشروع السنوات الثلاثين والذي كان سيكفل الاكتفاء الذاتي في الغذاء بالمملكة. وان السعودية ستقلل سنويا 12.5 % من إنتاج القمح فيها نظرة لشحة المياه لديها وحيث أن المملكة ستتجه لأفريقيا لزراعة غذائها هناك. علما بان المملكة العربية السعودية تستورد سنويا أكثر من مليون طن من الأرز حسب تقرير وزارة الزراعة الأمريكية. وفي 10 يوليو نشر موقع مكتوب الاقتصادي أن إمارة أبو ظبي وقعت بدورها معاهدة طويلة الأمد مع تركيا بمبلغ 6 مليار دولار للحصول على أراض زراعية بها..والسؤال المهم هو:
أين تقع هذه الأراضي؟ وأي مياه ستُستعمل لريها؟
والسؤال متروك لحكومتي وبرلماني بغداد وأربيل.
وللعلم وحسب جريدة ديلي تلجراف في 14 يوليو تموز 2009 فإن ما تصرفه المملكة وأبو ظبي في هذين المشروعين يعادل ما صرفته كل دول التعاون الخليجي عام 2007 على شراء أسلحة أمريكية، وما هذا إلا دليل على أن هذه الدول تعطي أهمية للأمن الغذائي موازيا لأمنها القومي. ولأنها تعرف مسبقا بان سد اليسو سيقام على نهر دجلة، وأن الحكومة التركية تريد الاستفادة منه وإعطائه لمستثمرين خارجين وعلى حساب فقراء تركيا. هذا ما يحدث من دولتين جارتين عربيتين مسلمتين. في الوقت الذي رفضت دول أوربية غربية مسيحية منها ألمانيا والنمسا وسويسرا تمويل هذا السد لأنها تعلم انعكاسه على شعوب المنطقة.وقد ذكرت محطات التلفزيون العراقية في 20 تموز الماضي أن المياه في دجلة والفرات وصلت لنصف منسوبها المعتاد في هذا الوقت من العام، فكيف سيكون الوضع بعد 3-5 سنوات من الآن وبعد استكمال تركيا لبناء السد المشار له؟
وفي هذه الأيام تقوم مجموعة غيورة من الشباب العراقي بجمع التوقيعات ضد بناء هذا السد مع تأييدي لهذا العمل فإن التصرف الجدي يجب أن يصدر من الحكومة العراقية وربط كل معاهداتها السابقة والجارية والقادمة مع دول المنبع والمتشاطئة لأنهر العراق بمشكلة المياه العراقية.
وفيما يبدو أن أعداد الدول التي تعقد مثل هذه المعاهدات ستزداد باطراد إذا لم تجابه بعنف. وسيكون باب الرزق للأتراك. وأما زيارات المجاملات التي يقوم بها حكامنا لتركيا فلن تردع الأخيرة أو توقفهم عن جني مليارات الدولارات الخليجية. والسؤال لماذا لا تطرح الحكومة العراقية على الأمم المتحدة.
ولنتعلم درسا من مصر حيث أنها دائما ما تراقب الأوضاع في الدول التي ينبع ويمر فيها النيل وتتأكد أن حصتها مؤمنة، وأنا على يقين أن أحدا لا يجرؤ على أخذ استكان زيادة من حصة مصر من مياه النيل. لقد صدق الكاتب العراقي رشيد خيون في مقال أخير له عندما قال أن حضارة العراق هي حضارة الماء ومدنه وقراه تمتد على شبكات والقدماء جعلوا من المياه العذبة لغزارتها إلها.
الغبار الأحمر
وعلاوة على شحة المياه التي يشكو منها البشر قبل الزرع والضرع فإن هناك مشكلة أخرى عويصة، وهي مشكلة الغبار الأحمر الذي تراقبه وكالة ناسا الفضائية منذ فترة، والتي لم يشهد تاريخ العراق مثلها؛ فعلاوة على ما تسببه من موت للأشجار فإن أوراق النباتات الخضراء كلها تتأثر بهذا الغبار الدقيق حيث تغلق مساماتها الدقيقة وتقلل العمليات البيولوجية فيها مما يؤدي لارتفاع درجة حرارة الأوراق. كما أن الغبار الأحمر يمنع الموجات الضوئية الحمراء من الوصول للكلوروفيل، وهو ما يؤثر سلبا على كل ما هو أخضر.
ويغطي هذا الغبار سماء العراق، ويؤدي لموت أشجار اليوكالبتوس والسرو العطشى، التي تشكل حزاما أخضر لمناطق كثيرة بالعراق. كما يؤدي لموت أشجار البساتين، علما أن كثيرا من أشجار النخيل قد اقتلعت من أماكنها أثناء حرب العراق ضد إيران في الثمانينات، وكلها عوامل تؤثر سلبا على الأمن الغذائي العراقي.
إنهم يزرعون الأفيون
ورئيس (سابق) لرابطة موظفي الأمم المتحدة FUNSA، مصر. إن قطاع الزراعة بشكل عام متدهور وهو ما أدى بدوره لنوع جديد من المشاكل الأخرى، وأهمها ما ذكرته صحيفة الاندبندنت البريطانية في 23 مايو الماضي وهو زراعة الأفيون بالعراق: فقد لخص مهندس زراعي محلي اسمه العزاوي الحالة قائلا أن الفلاحين لا يحصلون على مساعدات من الحكومة، ولا يمكنهم منافسة أسعار السلع المستوردة الرخيصة من فواكه و خضروات، وليس بوسعهم توفير أسعار الأسمدة والطاقة الغالية، لذا فان زراعة الأفيون هو الحل الوحيد لهؤلاء الفلاحين. وكنت قد توقعت هذا الوضع منذ عدة سنوات، وتوقعت أن زراعة الأفيون ستظهر بالعراق، وربما ستزداد كون كافة الظروف مهيئة لزراعة هذا السم.
وذكرت الاندبندنت اللندنية وموقع التر نت ومواقع أخرى بتاريخ 17 يوليو تموز 2007 أن مناطق بالعراق بدءً من بهرز والسعدية وداينة وحتى جنوب بلدروز قد بدأت بالفعل في زراعة الأفيون بين أشجار البرتقال والرمان التي تشتهر بها هذه المنطقة. وذكرت الاندبندنب أن معدل زراعته في محافظة ديالى أقل مما هو عليه في جنوب العراق، حيث جرت محاولات لزراعة الأفيون بالشنافية والشامية والخماز إلا أنها لم تنجح مثل ديالى وذلك لارتفاع الحرارة والرطوبة الزائدة. وحسب مواقع كثيرة مهتمة بزراعة الأفيون فقد كان أجدادنا السومريون عام 3400 قبل الميلاد يزرعونه ويسمونه عشب الكيف، وكان الجو مناسبا لزراعته وقتها.
المطلوب:
والمطلوب إذن من الحكومة العراقية والبرلمان إعطاء الأهمية القصوى لتحسين الوضع الزراعي والأمن الغذائي العراقي بطريقة صحيحة وليس البحث عن حلول جزئية مبتسرة، وأن تعلم أن الشاحنات والبواخر والطائرات التي تجلب الطعام والشراب للعراقيين بلا انقطاع لن تجد قريبا ما تجلبه لنا. وربما يصعب شراؤها لارتفاع ثمنها. وحسب ما نقلته وكالة رويترز في 2 تموز 2009 عن متحدثة باسم المؤتمر العالمي للاستثمار الزراعي أنها حذرت العالم من مشكلة الأمن الغذائي قائلة أن استهلاك اللحوم في اكبر دول العالم وهي الصين كان 10 كجم سنويا 1980 والآن أصبح 40 كجم، ليس هذا فحسب، بل لمعرفة ما وراء هذا الرقم وفهم تداعياته يجب أن نعلم أن عدد سكان الصين نفسها قد تضاعف، وليس فقط معدل استهلاك كل مواطن فيها، وان إنتاج كل كجم من اللحم يحتاج بدوره لعدة كيلوجرامات من الحبوب لتسمين الحيوانات حيث يأكلون لحم الخنازير والدواجن أكثر من اللحوم الأخرى. وحيث تنافس هذه الحيوانات البشر فيما تأكله. وأبلغت هذه المتحدثة المؤتمر بأن دولتي الصين والهند وبعد عشرة سنوات من الآن سيعانيان من مشكلة قلة المياه. وبالطبع سيبحثون ن حل لها على حساب الآخرين.
وللتخفيف من مشكلة الأمن الغذائي ولتحسين مستوى الزراعة العراقية فإن على الحكومة العراقية وبرلماني بغداد وأربيل رفض ما تمليه عليهم دول الجوار وتسلط هذه الدول في تحديد مناسيب المياه المنصرفة للعراق، ويجب اعتبار هذه المسالة مسألة حياة أو موت ولا يقبل فيها بأنصاف حلول. أما إقليم كردستان حيث شحة المياه ليست بمشكلة كبيرة حتى الآن وحيث لا يعاني الإقليم من ملوحة التربة، فلا يوجد معنى لاعتماد الإقليم الكلي على الاستيراد لتغذية أبنائه ولا سبب يفهم لعدم تطوير الزراعة فيه. ويا حبذا لو قام البرلمان الجديد هناك بوضع مشكلة الأمن الغذائي في أعلى قائمة أولوياته، لأن الأمن الغذائي قد يكون المخلب الذي ربما تستغله الدول المجاورة للتدخل في شئون الإقليم والعراق والمساس بسيادته وأمنه. وأخيرا وليس آخرا فإن مشكلة الأمن الغذائي بالعراق قابلة لأن تخف حدتها، إذا اقتنع أولو الأمر هناك بأهمية الزراعة واقتنعوا أن الأمن الغذائي لا يقل أهمية عن الأمن القومي.
طالب مراد
مستشار إقليمي (متقاعد) لمنظمة الأغذية والزراعة، لمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط FAO
نشر يوم6.8.2009
http://www.shams-alhorreya.com/wesima_articles/author-20090806-65667.html
No comments:
Post a Comment