Tuesday, 13 September 2011

ألاستعمار الجديد الزراعي والامن الغذائي-1

الطبعه الثانيه

 الآن وبعد خمسة عقود من انحسار الاستعمار الغربي المقيت عن قارتي آسيا و أفريقيا؛ حيث ظل لقرون مستغلا شعوب و خيرات هاتين القارتين. وبعد كل التطورات و التغيرات التي حدثت في العالم خلال العقود الثلاثة الماضية. نرى الآن وكأن التاريخ يعيد نفسه فالاستعمار يظهر لنا بشكل وثوب جديدين. الاستعمار الجديد ظهر من الشرق الأوسط و آسيا، و الغريب أن المستعمرين الجدد هم أهل المنطقة ولم يقدموا من الغرب كما اعتدنا عليهم. المستعمرون الجدد هم دول غنية جدا تشكو من عدم وجود أراضٍ زراعية لها أو أنها تشكو من التصحر أو من الكثرة السكانية. هذه الدول الشرق أوسطية والآسيوية وبعض مواطنيها الأغنياء جدا يعقدون صفقات مشبوهة للغاية مع دول لديها أراضٍ زراعية، و قيادات تهمها مصالحها الشخصية فقط. و الصفقات هي إما أن تشترى أراضٍ منها أو تؤجرها لمدة طويلة الأمد قد تصل إلى 99 عاما.

إن هذه الدول الصغيرة و الغنية تستورد معظم احتياجاتها الغذائية من وراء البحار، وأخذت تبدى اهتماما كبيرا لإنتاج الغذاء خارج حدودها خاصة بعد ارتفاع أسعار المواد الغذائية بجنون.

إن هذه الاتفاقيات و المعاهدات غير المعقولة والتي تعقد الكثير منها في الخفاء والسرية أخذت تجذب انتباه المنظمات الأممية واللاحكومية في العالم. وهي صفقات أطلق عليها كلمة الاستعمار الجديد وآخر من سماها بهذا الاسم هو الدكتور جاك ضيوف المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاوFAO) وكانت هذه المنظمة تغض الطرف سابقا عن هذه القضايا، بل كانت تصف هذه المعاهدات المشبوهة بالاستثمار الزراعي.
آخر هذه الصفقات الاستعمارية الجديدة كانت بين حكومة مدغشقر و منظمة دايو الكورية الجنوبية؛ حيث استأجر الكوريون الجنوبيون مليونا وربع المليون هكتار (الهكتار هو 10000 متر مربع) من أحسن الأراضي الزراعية في مدغشقر. أي أن الكوريين استولوا على نصف الأراضي الزراعية المروية في مدغشقر، وهو ما يعادل مثلاً نصف مساحة بلجيكا، علما بأن الأراضي الزراعية محدودة في هذه الجزيرة والتي يبلغ عدد سكانها حوالي 20 مليون يشكون من المجاعة والفقر المدقع. ويبلغ متوسط دخل الفرد هناك حوالي 300 دولار سنويا وهى نسبة متدنية جدا علما بأن متوسط دخل الفرد الكوري الجنوبي هو 25000 دولار سنويا. و الجدير بالذكر أن جنوب مدغشقر قد أصيب بالأعاصير ثلاث مرات خلال السنوات الخمس الأخيرة وسببت كوارث لا تعد ولا تحصى. و أن كوريا تريد أن تستغل هذه الأراضي في زراعة الذرة وزيت النخيل من أجل التجارة.
 

لقد وصفت كل من الحكومة الكورية و المدغشقرية المعاهدة بأنها ستحل كافة مشاكل مدغشقر وكلا الحكومتين سمتا المعاهدة بمسميات فضفاضة وغير حقيقية، لكن شعب مدغشقر لم يقبل المعاهدة وأخذت المظاهرات و الاحتجاجات تتكاثر ضد المعاهدة حتى تم إلغاؤها قبل أسابيع و من ثم سقوط الحكومة قبل أيام.

هناك دول أخرى تريد أن تكسب على حساب شعوبها و بالطريقة المدغشقرية، وهي على استعداد لبيع أراضيها لمن يدفع أكثر مثل كينيا و إثيوبيا و السودان و أوكرانيا و كمبوديا. وهناك دول أخرى تخجل أو تخاف أن تعلن استعدادها لمثل هذه الصفقات علنا.

ومن الأمثلة على هذه الاتفاقيات تلك التي أبرمت بين قطر و كينيا، حيث ستستغل قطر بمقتضاها 40 ألف هكتار من أخصب الأراضي الزراعية الأفريقية مقابل بناء ميناء لكينيا على المحيط الهندي بكلفة 3 مليارات دولار.

الإمارات العربية المتحدة تحاول استغلال 30 ألف هكتار في السودان و على ضفاف النيل لزراعة الذرة و الأعلاف الحيوانية علما بأن الإمارات قد عقدت عدة اتفاقيات مع سياد برى في الصومال حيث حصلت على مزرعة كبيرة على ضفاف نهر الشبيلي لكن كل هذه فشلت. و قبل سقوط نظام برى بعام واحد زار كاتب هذا المقال مزرعة الشيخ زايد في مدينة أفكوى القريبة من مقديشو ووجدها من أروع ما في الصومال، وأثناء الحرب أي في عام 1994 زارها مرة أخرى و لم يجد من معالمها شيئا، وأما مزارع ومعمل تكرير السكر فكان مصيرها الفناء وبيع المعمل الذي أنشأته الكويت لتجار الخردة في كينيا.

وأما الدول الأخرى التي عقدت أو ستعقد اتفاقات زراعية فهي:
1) المملكة العربية السعودية، حصلت المملكة على مليون و ربع هكتار من اندونيسيا. علما بأن مواطنها الوليد بن طلال بن عبد العزيز حصل على كمية مشابهه من مصر و ذلك في الوادي الجديد و لكنه لم يستغل منها إلا اليسير. و قد كانت الحكومة المصرية سخية جدا مع هذا المستثمر الذي تتهمه الصحافة المصرية بعدم الوفاء بوعوده.
2) الإمارات العربية المتحدة، حصلت على مليون هكتار في باكستان و هي بصدد الحصول على أراضى شاسعة في السودان و كازاخستان.
3) قطر، فبخلاف ما حصلت عليه في كينيا فإنها بصدد الحصول على أراضى في كل من كمبوديا و فيتنام.
4) ليبيا، والتي حصلت على ربع مليون هكتار في أوكرانيا ولها مشاريع زراعية كثيرة في أفريقيا منذ ثلاثة عقود.

5) كوريا الجنوبية، دولة مثل كوريا الجنوبية والتي لا تتعدى مساحتها على 10000 كيلومتر مربع حاولت الحصول على أراضى في مدغشقر ففشلت و لكنها بصدد الحصول على 700 ألف هكتار من السودان. و هي تحاول الحصول على أراضى في أي مكان لتغذية 47 مليون كوري جنوبي (إن الصفقات التي تقوم بها الحكومة السودانية مع بعض الدول بإعطائهم أراض زراعية هي عملية مجحفة للشعب السوداني حيث تحاول منظمة الأغذية العالمية W F P تغذية 5.6 مليون نسمة في دارفور).
6) اليابان، حصلت اليابان على 100 ألف هكتار من البرازيل.
7 ) الصين: إن هذا العملاق لديه حوالي 40% من فلاحي العالم، ويملك حوالي 9% فقط من الأراضي الزراعية في العالم، وهو ما دفع الصين لتوقيع اتفاقيات مع أكثر من 30 دولة " صديقة" حيث ترسل الصين الآلات والخبراء لهذه الدول التي حصلت على أراض زراعية فيها، وهؤلاء الخبراء يزرعون عادة الأرز والصويا والذرة من الأنواع المطلوبة في الصين، بعكس ما يزرع محليا في تلك الدول. والغريب أن هذه الصفقات تشوبها السرية التامة رغم أن بعض الشعوب بدأت تنظر لهذه الاتفاقات بريبة.

والسؤال الآن يدور حول العراق؟
فإن العراق هو البلد الزراعي الثاني بعد السودان في مجموعة الدول العربية حيث أن فيها نهريين دائمين كبيرين و أراضيها خصبة صالحة للزراعة. مع كل ذلك فإن المستشار الاقتصادي في مجلس الوزراء د. عبد الحسين العنبكي أعلن بأن العراق يخسر ما يعادل مئة ألف دونم سنويا من الأراضي الصالحة للزراعة. فلماذا يحدث هذا؟ وكما يعرف في الوقت الحالي فإن العمالة الزراعية في العراق أخذت تشح بشكل هائل حيث أن الانضمام لقوات الشرطة و الجيش و الحدود قد أدى إلى هجرة الفلاحين العراقيين عربا وأكرادا من أراضيهم و على ما يبدو أن وزير الزراعة العراقي يحاول حل هذه المشكلة بجلب فلاحين من خارج العراق. ولكن هذا ما هو إلا حل ساذج لمشكلة كبيرة و عويصة.

إن الأمن الغذائي العراقي لا يقل أهمية عن الأمن القومي و على ما يبدو أن أكثر من % 80 من ما يأكله الشعب العراقي مستورد. علما بأن الحديث عن نوعية و صلاحية الغذاء ستزيد المصيبة. و الحل الساذج الآخر هو حل مشكلة الأمن الغذائي بواسطة الاستيراد من دون التأكد من صلاحية نوعية و مصادر الغذاء. ففي الآونة الأخيرة ونظرا لارتفاع الوعي الصحي في دول الجوار فإنه يبدو أن كثير من الأغذية الغير (صالحة) تجد طريقها إلى العراق. وأما ما يستورد فأعتقد بأنه لا يوجد إحصاء لهذا في العراق. ففي أواخر نوفمبر 2008 رجع كاتب المقالة بعد زيارة خاصة إلى إيران عن طريق السليمانية بالسيارة و قد تصادف وصوله معبر باشماخ بين مريوان الإيرانية و بنجوين في كردستان صباحا باكرا أي قبل فتح الحدود و قد تمكن من عد 285 شاحنة تنقل الطعام إلى العراق. علما بأنه ما عدا مواني شط العرب فإن العراق يحد بستة دول كل لها أكثر من منفذ حدودي مع العراق. يا ترى ما هي حجم مشكلة الأمن الغذائي العراقي؟ هناك واقعة أخرى يتذكرها الكاتب و هي أنه سأل البقال الذي يتعامل معه في سرجنار (السليمانية) عن كم من الخضار و الفواكه الموجودة بكثرة في محله هي عراقية المصدر. و للرد على سؤاله ذهب البقال إلى الطرف البعيد من ما معروض ورفع "باقة كرفس".

و على ما يبدو أن الحلول الساذجة التي اقترحت للعمالة الزراعية و الأمن الغذائي العراقي ستؤدى أخيرا إلى أن تعطى أراضى عراقية مجانا لدول الاستعمار الجديد لاستغلالها (استثمارات) و سيُكثر تماسيح الأراضي من زياراتهم للساسة العراقيين،.. وإن غدا لناظره قريب.

أ. د. طالب مراد
مستشار إقليمي (متقاعد) لمنظمة الأغذية والزراعة، FAO، لمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ورئيس (سابق) لرابطة موظفي الأمم المتحدة FUNSA، مصر
نشر في هذا الموقع ومواقع اخرى بتاريخ                   24.5.2009  

No comments: